سورة الأنبياء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة عليها قد كشفت عن وجوه الضالين، من الكافرين والمشركين، وعرضت تصوراتهم المريضة، لجلال الألوهية وكمالها، حتى لقد بلغ بهم الإسفاف في ضلال العقل، وسخف النظر، ما أوردهم هذا المورد الذي ينزلون فيه إلى هذا المنحدر من الضلال، فيعبدون أحجارا، وحيوانات، وأناسىّ، ويجعلونها آلهة، تخلق، وترزق، وتحيى، وتميت..!
فجاءت هذه الآية تلفت هؤلاء الضالين إلى ما هم فيه من ضلال وشرود عن عن اللّه، الواحد، المتفرد بالألوهية والملك والسلطان.
وفى اختصاص الذين كفروا بالذكر هنا، لأنهم هم الذين عمّوا عن هذه الآيات فضلّوا وكفروا، أما المؤمنون فقد كان لهم نظر دائم إلى هذا الوجود، وتفكير متصل في أسراره وعجائبه، فهم كما وصفهم اللّه سبحانه في قوله: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ} [191: آل عمران].
وفى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَ


{وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ}.
مما كان يلقى به المشركون النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- الاستهزاء به، والسخرية منه، ورميه بقوارص الكلم، وفحش القول.. فذلك هو سلاح من أسلحة الجاهلين، الذين لا يحسنون غير السفاهة والفحش، حين تقهرهم الحجة، ويخرسهم البرهان.
وفى قوله تعالى: {وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً..}.
{إن} هنا بمعنى {ما} النافية، أي ما يتخذونك إلا هزوا.. وهذا تهديد لهؤلاء الكافرين، وفضح لما يدور في رءوسهم، وتتلمظ به شفاههم، وتتغامز به عيونهم.. إنهم إذا رأوا النبىّ تحركت هذه الكلاب التي تنبح في صدورهم، فأرسلوها نظرات حانقة، وأطلقوها كلمات محمومة مجنونة، ترمى النبىّ من بعيد ومن قريب.. فليست هناك كلمة طيبة تخرج من أفواههم، أو نظرة وادعة تطرف بها عيونهم.
وقوله تعالى: {أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}.
هو بعض ما يجرى على ألسنتهم من سفاهة.. والاستفهام هنا للاستهزاء والاستنكار، واستصغار قدر النبىّ الذي يتطاول إلى هذه الآلهة، فيذكرها بما يذكر من سوء عابديها!- وقوله تعالى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ} جملة حالية.. أي أنهم يقولون هذا القول في النبىّ وينكرون عليه أن يذكر آلهتهم وأن يجترىء على مقامهم، في حال هم فيها قائمون على جرم غليظ، إذ كفروا بالرحمن، الذي وسعتهم رحمته، فلم يجعل لهم العذاب، وأفاض عليهم من فضله وإحسانه، فلم يقطع أمداده عنهم.. فما لهم يغارون على آلهتهم الصماء الخرساء، ولا يغارون على مقام اللّه {الرحمن} وقد أجلوه من قلوبهم، وأخلوا مشاعرهم من كل توقير له؟
قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}.
الإنسان هنا، هو مطلق الإنسان.. فكل إنسان مفطور على حبّ العاجل يتعجّل كل شىء.. الخير والشرّ.. كما يقول اللّه تعالى: {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا} [11: الإسراء].
ولهذا كان مما دعت إليه الشرائع السماوية {الصبر} الذي هو الدواء الذي يخفّف من هذا الداء.
وفى هذا يقول سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [45: البقرة] ويقول: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} (سورة العصر).
فالصبر هو زاد المؤمنين، وهو عدّتهم في مواجهة الحياة.
أما من تحففوا من هذا الزاد، فإنهم أبدا في همّ وقلق، تمرّ الأيام بهم بطيئة ثقيلة.. يريدون أن يجتمع لهم في يومهم كلّ ما يمكن أن تطوله أيديهم، وتمتد إليه آمالهم.. إنهم يريدون حياتهم يوما واحدا أو ليلة واحدة، كليلة جنود الحرب، يقضونها ليلة صاخبة لاهية، يفرغون فيها كلّ ما في جيوبهم، ويلقون في وقودها كل ما معهم من مال ومتاع.. أما الغد فلا نظر إليه، ولا حساب له.
والمشركون يستعجلون كل شىء.. حتى الهلاك، والبلاء الذي أنذروا به، ويقولون في إلحاح ولجاج: متى هو؟
وفى قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} هو الجواب على ما يستعجل به المشركون من عذاب اللّه، ومن الخزي الذي سيحل بهم يوم يجىء نصر اللّه والفتح.. وهو تهديد للمشركين، بما سيلقون على يد المؤمنين من هوان وذلة، يوم يرون آيات اللّه، ويوم تهزم الفئة القليلة الفئة الكثيرة! قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}.
جواب الشرط هنا محذوف، وتقديره: لو يعلم الذين كفروا ما ينتظرهم من بلاء وعذاب يوم يأتيهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، لما استعجلوا ما أنذروا به من عذاب اللّه.
وفى قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} إشارة إلى أنهم لن ينصروا في هذه الدنيا، بل ستحلّ الهزيمة بهم، وأنهم لن يجدوا في الآخرة من ينصرهم من بأس اللّه إذا جاءهم.
قوله تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}.
الضمير في {تَأْتِيهِمْ} يراد به السّاعة التي يكذبون بها، ويستعجلونها.
فالساعة لا تأتيهم حسب تقديرهم، وحسب موعد معلوم لهم.. بل ستأتيهم بغتة، أي مباغتة، ومفاجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} أي تخزيهم، وتفضح معتقدهم فيها.
{فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها} أي دفعها ومنعها.. إنها بلاء واقع بهم، ليس لها دافع.. {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا ينتظر بهم في الدنيا، حتى يصححوا معتقدهم، ويهيئوا أنفسهم للقاء هذا اليوم.
قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
هو عزاء للنبىّ، وتسرية لما يلقى من قومه من أذى، وما يواجه به من استهزاء وسخرية.. فهو ليس وحده من بين رسل اللّه، الذي وقف منه قومه هذا الموقف اللئيم، بل إن كثيرا من رسل اللّه قد أعنتهم أقوامهم، وأغروا بهم السفهاء منهم.
وقوله تعالى: {فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} هو تهديد لهؤلاء المشركين، وأنه سيحيق بهم ما حاق بالمستهزئين من قبلهم برسل اللّه، وسيلقون حساب هذه السخرية عذابا ونكالا.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}.
الكلأ، والكلاءة: الحفظ والرعاية، والحراسة.. يقال: كلأه اللّه:
أي حرسه وحفظه.. ومنه الكلأ، وهو العشب الذي ترعاه الماشية، والذي عليه قوام حياتها.
والمعنى: من يكلؤكم أيها المكذبون الضالون المشركون، ويحفظكم من اللّه إن أراد بكم سوءا، أو أخذكم بعذاب من عذابه بالليل أو بالنهار؟ أهناك من آلهتكم ومعبوداتكم من يدفع عنكم بأس اللّه إن جاءكم؟ انظروا إلى هذه الآلهة وماذا يمكن أن يكون لها من حول وطول أمام حول اللّه وطوله؟ إنه لا شيء إلا العجز والاستخزاء.
وفى الآية الكريمة إشارتان:
الأولى في قوله تعالى: {يَكْلَؤُكُمْ} وقد جاءت بمعنى يمنعكم، ويحرسكم.
وفى التعبير عن هذا بالكلاءة إشارة إلى أن الإنسان- مهما ملك من جاه وقوة وسلطان- هو كائن عاجز ضعيف، محتاج إلى قوة عليا، ترعاه، وتمدّه بأسباب الحياة والبقاء.
والإشارة الثانية في قوله تعالى: {مِنَ الرَّحْمنِ} وقد جاءت هذه الصفة الكريمة من صفات اللّه سبحانه وتعالى، لتشير إلى واسع رحمته، وعظيم فضله، وأنّ هؤلاء المشركين الضالين، قد بالغوا في غيّهم، وضلالهم، ومحادّتهم للّه ورسوله، حتى إن رحمة اللّه- مع سعتها- تكاد تطردهم من رحاب فضلها وجودها.
وفى قوله تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، قد شغلوا بما هم فيه من لهو ومتاع، وأنهم لهذا لا يذكرون اللّه، وأنه إذا جاءهم من يذكّرهم باللّه، ويعرض عليهم آياته وكلماته، أعرضوا، وسفهوا.. وذلك غاية في الضلال والخسران.. إذ أنه قد يغفل الإنسان عن الخطر الذي يتهدده، وينسى أو يتناسى المكروه الذي يترصده، فإذا هلك في هذا الوجه، كان له بعض العذر عند نفسه أو عند الناس، أما من ينبّه إلى الخطر فلا ينتبه، ويحذّر من البلاء فلا يرعوى، فإنه إذا لقى مصيره المشئوم، لم يجد من يعذره، أو يرثى له.
قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ}.
هو مطالبة لهؤلاء المشركين الذين لجّوا في ضلالهم وطغيانهم، أن يأتوا بمن يمنعهم من دون اللّه، ويدفع عنهم يأسه إن جاءهم.. فليسأل المشركون أنفسهم هذا السؤال: ألهم آلهة تمنعهم من دون اللّه؟ فإن هم عموا عن حقيقة آلهتهم، وقالو: نعم، إن لنا آلهة نعبدها، ونرجو نصرها وعونها- إن هم قالوا هذا الضلال، وجدوا في قوله تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} ما يردّ عليهم هذا السّفه، ويبطل هذا الباطل.. فإن هذه الآلهة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، ولا ردّ السوء إذا وقع بها، فكيف تنصر غيرها، وتدفع السوء عنه؟.
وفى قوله تعالى: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، لا يجدون من آلهتهم نصرا، كما أنهم لا يجدون من اللّه عونا، ولا نصرا.
إذ لا عمل يشفع لهم عند اللّه، ويردّ عنهم بأسه، فلا يصحبون من اللّه بعون أو نصر.
قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ}.
أي أن هؤلاء المشركين قد مدّ اللّه لهم، في ضلالهم، ولم يعجّل لهم العذاب بل متعهم، كما متّع آباءهم المشركين من قبلهم، حتى استوفوا آجالهم.
وقد حسبوا- لضلالهم- أن اللّه غافل عما يعمل الظالمون، وأنهم بمنجاة من بأس اللّه، لما في أيديهم من مال ومتاع.. وذلك ظنهم بربّهم هو الذي أرداهم.
لقد جهلوا قدر اللّه، ولم يرجوا له وقارا، ولم يخشوا له بأسا.. ولو نظروا فيما بين أيديهم وما خلفهم لرأوا كيف تأتى غير اللّه، وكيف يقع بأسه بالظالمين فكم أهلك اللّه قبلهم من قرون؟ وكم أذلّ من جبابرة؟ وكم بدّل من أحوال وأوضاع؟ فهل بقي حال على حاله، أو ظل ذو سلطان في سلطانه؟ أم أنهم هم القوة التي لا تغلب ولا تنزل بها الأحداث والغير؟ {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟ أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟} والاستفهام الأول للأمر، والثاني للتهديد.
والمراد بالاستفهام الأمرى: إلفات المشركين إلى ما يقع من غير اللّه في الناس، وأنه سبحانه القوى القهار، يذلّ الجبابرة، ويرغم أنوف المتكبرين، فإذا هم في لباس الذلة بعد العزة، وفى دار الهوان بعد الكرامة، وفى ضنك العيش بعد النعمة والرفاهية. هذه سنة اللّه في هذه الدنيا، فلا شيء فيها يبقى على حال، بل كل شيء إلى زوال: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها}.
؟ فالنقص لأطراف الأرض هو النقص في النعم، من مال، ومتاع، وبنين، ومن قوة وصحة، ومن جاه وسلطان، يقابل ذلك زيادة في هذه النعم، وذلك بما يقع من تبدل في أحوال الناس.. حيث تنتقل هذه النعم من يد إلى يد، ومن جماعة إلى جماعة، ومن أمة إلى أمة، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ}.
فيلبس الفقير ثوب الغنى، كما يلبس الغنىّ ثوب الفقر، وهكذا الحال في كل نعمة.. فالدنيا: حياة وموت، وغنى وفقر، وصحة ومرض.. إلى غير ذلك مما يتقلب فيه الناس من شئون.
وهذا هو السرّ في التعبير القرآنى: {مِنْ أَطْرافِها} حيث أشار ذلك إلى أطراف من الأرض، أي جوانب منها. وهى الجوانب التي تمثل سلب النّعم، أما الجوانب الأخرى التي تساق إليها النعم، فهى مسكوت عنها في هذا المقام، الذي هو مقام تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين طال عليهم العهد وهم في تلك النّعم التي أنستهم ذكر اللّه، والتي هى على وشك أن ترحل عنهم، وتفلت من أيديهم.. فإنهم لا يستطيعون دفع بلاء اللّه إذا نزل بهم: {أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟}.
وقد ذهب أكثر المفسّرين إلى أن هذه الآية مدنية في السورة المكية، وأقاموا معناها على أن نقصان الأرض من أطرافها، هو إشارة إلى ما يغلب عليه المسلمون من أرض المشركين والكافرين.. وأن المسلمين ينقصون الأرض التي في أيدى الكافرين بالفتوحات الإسلامية، وبضمها إلى أيديهم.
وهذا المعنى بعيد في نظرنا.. وذلك من وجوه:
أولا: أن فتح المسلمين للأرض، وضمها إلى حوزة الإسلام ليس نقصا للأرض، بل هو زيادة فيها، ونماء لها.. إذ كان ذلك الفتح مما يبارك على الأرض خيرها، وبضاعف ثمرها، بما ينشر فيها من عدل، وأمن، وسلام.
وثانيا: أن اللّه سبحانه وتعالى أضاف هذا النقص للأرض من أطرافها- أضافه إليه، سبحانه.
وثالثا: أن المقام مقام تهديد للمشركين، بهلاكهم، وتبديل أحوالهم.
إن لم يكن ذلك ببلاء عاجل يأخذهم اللّه به، كان ذلك بحكم الزّمن وبسنن اللّه الكونية التي أجراها على الناس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ} [4: ق].
ورابعا: السورة كلها مكية، ولا معنى لأن يقال إن هذه الآية وحدها هى الآية المدنية فيها، حيث أن سياق النظم يجعلها قطعة من هذه السورة، مرتبطة ارتباطا وثيقا بما بعدها وما قبلها.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ}.
هو تنبيه لهؤلاء المشركين الغافلين، الذين إذا ذكروا بآيات ربّهم أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إلى ما يدعون إليه من هدى وخير.. وقد أمر اللّه سبحانه وتعالى النبىّ الكريم أن ينخسهم بهذا الأسلوب الزاجر، وأن يقرعهم بتلك المقرعة الموجعة، حتى تتأثر لذلك قلوبهم القاسية، وتستشعر به مشاعرهم المتبلّده، وطباعهم الجافية الغليظة.
فهم يعرفون أن ما ينذرهم به النبىّ، هو وحي يوحى إليه من ربّه.. إذ هكذا يقول لهم، وهم لهذا يكذبونه، ويستكثرون عليه أن يكون على صلة بالسماء.
وفى قوله تعالى: {أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} مع أن الأمر قائم بينهم وبين النبىّ على أن ما ينذرهم به هو الوحى- في هذا التصريح بأن ما ينذرهم به هو الوحى تشنيع عليهم، وعلى الغفلة المطبقة عليهم، وعلى الظلام الكثيف المخيم على عقولهم وقلوبهم. فهذا الذي ينذرهم به النبىّ، هو من الإشراق والوضوح بحيث لا يخفى على ذى عقل ونظر أنه وحي من عند اللّه، ولكن أنّى للعمي أن يبصروا، وللصمّ أن يسمعوا، وللحمقى أن يعقلوا ويعوا؟ فكان لا بد أن ينخسوا هذه النخسة، وأن يقرعوا بتلك المقرعة، وأن يقال لهم عن هذا النور، إنه نور، وعن هذه الشمس، إنها الشمس!! قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ}.
فهؤلاء المشركون، الذين غرّهم باللّه الغرور، فأمنوا مكره، واستخفوا ببأسه- هم على حال من الضعف والاستخزاء يكادون يكحونون بها مثلا فريدا في الناس.. فهم إذا مسّتهم نفحة من عذاب اللّه جزعوا، وانحلّت قواهم، وأكثروا من الصياح والعويل، ونسوا ما كانوا عليه من تشامخ وتعال.. ولم يجدوا شيئا من العزاء والصبر، على نحو ما يجد المؤمنون حين يبتلون من اللّه بشىء من الضر.
والمسّ: دون اللّمس.. والنفحة من العذاب: أهون شيء فيه وأقله، وهو بالنسبة للعذاب أشبه بالرحمة، ولهذا عبّر عنه بالنفحة، التي يغلب استعمالها في الخير.
فهذا العذاب الذي يمسهم اللّه به، هو أقل العذاب، وهو يعتبر نعمة ورحمة بالنسبة إلى العذاب! فكيف إذا وقع بهم العذاب نفسه، لا نفحة منه؟
قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ}.
القسط، والقسطاس: العدل.
ووضع الموازين: إقامتها، ونصبها لتوزن أعمال الناس فيها.. وحبة الخردل: حبة ضئيلة لا تكاد تمسك بها الأصابع.. والآية الكريمة. نذير لأولئك المشركين، الذين أشركوا باللّه، وأعرضوا عن ذكر الرحمن، وظنوا أنهم في حمى من بأس اللّه، بجاههم ومتاعهم.. وهب أنهم قطعوا العمر في لهو ولعب، ونعموا بما في أيديهم من مال وبنين، فإنهم لا بدّ ميتون، ثم إنهم لمبعوثون، ومحاسبون على ما عملوا من سوء.. فهناك حساب وجزاء، حيث تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا.
وفى جمع الموازين، إشارة إلى أن لكل إنسان ميزانا توزن به أعماله، فلا ينتظر غيره حتى يفرغ من حسابه ووزن أعماله.. بل إن الإنسان الواحد، له موازين كثيرة، بعضها لسيئاته، وبعضها لحسناته.. ولكل عمل من أعماله السيئة أو الحسنة ميزان، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ} [6- 9 القارعة].
وفى قوله تعالى: {وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} إشارة إلى عدل اللّه سبحانه وتعالى وإلى ضبطه لأعمال الناس، ومحاسبتهم عليها، دون أن يفلت أحد من هذا الحساب، أو يقع في حسابه خطأ، ولو كان مثقال حبة من خردل.. فسبحان من وسع كل شيء علما.


{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}.
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد ذكّررت المشركين وما جاءهم به النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- من هدى ورحمة، فعموا وصموا، وأعرضوا.. وفى ذكر موسى وهرون، وما آتاهما اللّه من كتاب، يكشف عن أمرين:
أولهما: أن النبىّ ليس بدعا فيما جاء به قومه من هدى السماء، بل إن أنبياء كثيرين، ومنهم موسى وهرون، قد جاءوا إلى أقوامهم بآيات اللّه وكلماته.
وثانيهما: أن اليهود، على رغم ما جاءهم من آيات اللّه الحسية إلى جانب آيات الكتاب، لم يستقيموا على دعوة الحق، بل كان لهم مكر بآيات اللّه، وكفر بها.. وفى هذا تعريض باليهود، وبأنهم على ضلال، وأنهم مدعوون إلى أن يصححوا عقيدتهم على ضوء هذا الكتاب الذي بين يدى الناس، والذي سيلقاهم به النبىّ بعد قليل.
وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} ما يحتاج إلى بيان:
فما الفرقان؟ وما الضياء؟ وما الذكر؟
أهى شيء واحد؟ وأن الفرقان هو الضياء، وهو الهدى، وهو الذكر؟
أم هى الفرقان، والضياء، والذكر؟
اختلف المفسرون في هذا:
وذهب أكثرهم إلى أن {الْفُرْقانَ} هو الآيات الحسّية كالعصا واليد.
اللتين كانتا من آيات موسى.. وأن الضياء هو التوراة وكذلك الذكر.
وذهب بعضهم إلى أن ثلاثتها شيء واحد، هى التوراة.
فهى فرقان يفرق بين الحق والباطل، وهى ضياء يكشف معالم الطريق إلى الحق، والخير، والإحسان، وهى ذكر وموعظة، لمن يطلب الذكر والموعظة، ولمن كان في قلبه إيمان وتقوى.. حيث يذكر فتنفعه الذكرى.
ونحن نميل إلى هذا الرأى، حيث أن الآيات المادية قد ذهبت آثارها، ولم يكن لها أثر إلا فيمن شهدوها، ورأوا آثارها بأعينهم.
ونسبة إتيان الفرقان لموسى وهرون، مع أن موسى هو الذي أوتى هذا الكتاب، لأن هرون كان مشاركا لموسى في الدعوة إلى اللّه بهذا الكتاب كما قال اللّه تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى}.
وفى قوله تعالى: {لِلْمُتَّقِينَ} تعريض باليهود، وبأنهم لا يتقون اللّه، ولهذا فهم لا ينتفعون بهذا الفرقان، والضياء والذكر، الذي في أيديهم، ولا يوقرونه، بل لقد عبثوا به، وغيروا به وبدّلوا فيه.
وفى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} صفة للمتقين.. وفى هذا الوصف تعريض باليهود، وبأنهم ليسوا على هذه الصفة، وأنهم ماديّون، لا يتعاملون إلا بالحسيات، ولهذا فهم لا يؤمنون باللّه إلا إيمانا طفيفا، قلقا، ولهذا أيضا فهم لا يعملون للآخرة، ولا يشفقون مما يلقاهم فيها من عذاب اللّه.. إذ كان عذابها غير حاضر بين أيديهم.. إنهم لا يؤمنون بالغيب، ولا يقيمون حياتهم على التعامل به.
قوله تعالى: {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}.
الإشارة هنا إلى القرآن الكريم.. والإشارة إليه بهذا، الذي يدل على قرب المشار إليه، إشارة إلى قربه من الأفهام، ويسر تناوله، ولانتفاع به، والاهتداء بهديه.
والضمير في قوله تعالى: {أَفَأَنْتُمْ} قد يكون خطابا للمشركين، وفيه تهديد لهم، وتعريض باليهود.
أي أفأنتم منكرون لهذا الذكر، غير آخذين بهديه، كما هو الشأن عند اليهود مع كتابهم؟
وقد يكون الخطاب لليهود، والمعنى أفأنتم منكرون لهذا الكتاب، كما ينكره هؤلاء المشركون، وقد عرفتم وجهه بما عندكم من كتاب اللّه الذي في أيديكم؟.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ}.
ومناسبة ذكر إبراهيم هنا، لأنه صاحب دعوة ورسالة كموسى، وهرون، ومحمد، ولأنه أبو هؤلاء الأنبياء.. ومن جهة أخرى، فإن موقف إبراهيم من قومه، هو نفس الموقف الذي يقفه محمد من قومه، وما يعبدون من أصنام.
وإتيان اللّه سبحانه وتعالى إبراهيم رشده، أي منحه الإدراك السليم، والقلب النقىّ، الذي يأبى بطبيعته قبول الرجس والخبث.
وقوله تعالى: {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ}.
متعلق بقوله تعالى: {عالِمِينَ} أي وكنا به عالمين، حين قال لأبيه وقومه هذا القول: {ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ}؟ فلقد أنكر عليهم ما هم فيه من عمى وضلال، إذ عكفوا على عبادة هذه التماثيل التي صوروها بأيديهم من خشب وأحجار.
والعكوف على الشيء: مداومة الاتصال به حالا بعد حال.
ويمضى الحوار بين إبراهيم وقومه... وكلما جاءهم بحجة دامغة، التووا عليه، وردوا المنطق بالسفاهة.. يقول لهم: {ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ}؟.
وكان جديرا بهم- لو عقلوا- أن ينظروا إلى هذه التماثيل، وأن يتعرفوا على حقيقتها، وعن الآثار التي تجنى منها لمن يعبدها.. إنها لا تسمع، ولا تعقل، ولا تملك ضرا ولا نفعا،. فكيف يعطيها إنسان ولاءه، وينفق عمره في سبيلها؟
ولكنهم لا ينظرون في شيء من هذا، بل يريدون عليه، بداهة:
{قالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ}!.
هذا هو كل ما عندهم.. إنهم أطفال صغار، لا حلوم لهم.. أو قرود تقلد ما ترى، في غير إدراك. أو وعى لما تقلده!.
{قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
إنه ليس حجة أن يضل إنسان لأن من قبله كان على ضلال.. وما جدوى أن يكون للإنسان عقل ينظر به في الأمور، ويتعرف إلى ما هو حق أو باطل، وخير أو شر!؟ ولم إذن يستعمل الإنسان عينيه، ولا يستغنى عنهما في التعرف على الأشياء حوله؟ إن هذا المنطق يقضى بأن يغمض الإنسان عينيه، ثم يضع يده على كتف أي ذى عينين، ليقوده ويتبع خطاه! هكذا في تهكم وسخرية، يلقون هذا المنطق المشرق.. وهكذا يستقبلون الجدّ بهذا الهزل الأحمق.
{قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}.
لقد أضرب إبراهيم عن سخفهم هذا، وقطع عليهم الطريق إلى هذا الهزل الذي أرادوا أن يسوقوه إليه، ومضى يقرر الحق الذي يدعوهم إليه: {رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} هذا هو الربّ الذي يجب أن يعبد، وإن كان لا يرى، فإن آثاره تدل عليه، وتشهد على عظمته، وجلاله، وقدرته وعلمه، وقد آمن إبراهيم بهذا الإله، وشهد شهادة الحق له.
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}.
لقد أسرّ إبراهيم ذلك في نفسه، وأراد أن يريهم هذا القول في صورة عملية، بعد أن لم يجد القول آذانا تسمع، أو قلوبا تعى.. فهذا هو الأسلوب الذي يمكن أن يعامل به الأطفال، وصغار العقول من الرجال.
وقد صدّر إبراهيم النية التي انتواها في شأن الأصنام، بالقسم، حتى يؤكد هذه النية التي صح عليها رأيه في هذا الموقف، وحتى لا يرجع عنها إذا هو زايل موقفه هذا، وبردت حرارة الموقف!.
والكيد للأصنام، هو إعمال الحيلة، وإحكام التدبير فيما يريده بها.
{فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}.
وهكذا كان إبراهيم وتدبيره.. لقد دخل على مرابض الأصنام في غفلة من عابديها، ثم أعمل فيها يده تحطيما، وتكسيرا، حتى جعلها {جُذاذاً}.
أي قطعا صغيرة متناثرة.. إلا كبير هذه الأصنام، فإنه أبقى عليه. لأمر أراده، سيكشف عنه فيما بعد.. وفى هذا يقول اللّه تعالى في سورة الصافات:
{فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟. ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟. فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ.} (الآيات: 91- 93) {قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا.. إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
وحين رأى القوم آلهتهم حطاما، وقد جاءوا إليها عابدين، أخذتهم الحيرة والدهشة، واستولت عليهم حال من الذهول والوجوم.. فلما زايلتهم تلك الحال، جعلوا يتساءلون: {مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟} يقولونها ولا يسألون أنفسهم:
كيف يفعل بآلهتهم هذا، ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها ما يكاد لها به؟ أآلهة تحتاج إلى من يحرسها ويحميها؟ لم يلتفتوا إلى شيء من هذا، بل مضوا يبحثون عن الجاني الذي فعل تلك الفعلة.. {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}! {قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ}.
والتفت القوم إلى من يحقر هذه الآلهة، ويبغض مقامها فيهم، فلم يجدوا غير إبراهيم، الذي أنكر عليهم عبادتها، وسخر من قبل بهم وبها! {قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}.
وجاءوا بإبراهيم، ووضعوه موضع المساءلة والاتهام، على أعين الناس، وبمشهد من الجموع الحاشدة، التي هزّها هذا الحدث العظيم! {قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ}؟.
{قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا.. فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ؟}.
بهذا الأسلوب الساخر القاتل، يجيب إبراهيم على اتهام القوم له.
أنا لم أفعل هذا بتلك الأصنام، بل الذي فعله، هو كبيرهم هذا، الذي ترونه قائما على هذه الأشلاء! لقد قامت بينه وبين أتباعه معركة، وليس هذا ببعيد، فما أكثر ما يقع الخلاف بين المتبوع والتابعين، وما أكثر ما يملك المتبوع من القوة والسلطان ما يضرب به أتباعه الضربة القاضية.. وليس من المستبعد إذن أن يكون قد وقع خلاف بين هذا الصنم الكبير، وبين أتباعه، فأخذهم ببأسه، ونكّل بهم هذا التنكيل الذي ترون! فإن كنتم لا تصدقون.. {فَسْئَلُوهُمْ.. إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ} أي إن كان في قدرتهم أن ينطقوا، وأن يكشفوا عن الجاني الذي جنى عليهم، وحطم رءوسهم، ومزق أشلاءهم! ولم ير إبراهيم أن يسألوا هذا الصنم الكبير.. بل دعاهم إلى أن يسألوا المجنى عليهم، فهم أعرف بمن جنى عليهم، إن كان بهم قدرة على الكلام.
أما الجاني فقد ينكر جنايته، ولا يكشف عن فعلته.. وهذا هو السرّ في أن طلب إبراهيم إليهم أن يسألوا المجنى عليهم لا الجاني.
هذا، وقد أكثر المفسرون في الحديث عن اتهام إبراهيم للأصنام، ودفع التهمة عنه.. ودخلوا في جدل طويل حول هذا الكذب، والمواطن التي يباح فيها للمرء أن يكذب، وعدّوا هذا الذي كان من إبراهيم من الكذب المباح المتجاوز عنه.. لأنه من قبيل التقيّة، التي يجوز المؤمن فيها أن ينطق بكلمة الكفر إذا تعرض للبلوى، ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان.
والأمر لا يحتاج إلى شيء من هذا، فما قال إبراهيم هذا القول، وهو يقدّر أن القوم يصدقونه، أو يأخذون به.. وعندئذ يمكن أن يقال إن هذا كذب مباح ومعفوّ عنه.. وإنما قال إبراهيم ما قال، استهزاء بالقوم، وسخرية منهم، وكشفا لهم عن حقيقة هذه الأحجار.. ولهذا ردّوا عليه قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}! أي إنك تقول هذا القول ساخرا مستهزئا، لأنك تعلم أنهم لا ينطقون.. وإذن فلا كذب من إبراهيم، وإنما هو الحق الصراح، في أسلوب مجازى!! {فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}.
أي إنه حين جابههم إبراهيم بهذا الجواب بهتوا، ووقع في أنفسهم هذا القول الذي قاله، أنه حق، وأنهم على ضلال، وما كان لهم أن يعبدوا هذه الدّمى، وتلك الخشب المسندة.. إنها لحظة خاطفة أشرقت فيها أنفسهم بنور الحق، واستبان لهم على ضوء هذه اللمعة أنهم على ضلال، وأنهم قد ظلموا أنفسهم بهذا الضلال الذي هم فيه، ولو وجدت هذه الشرارة المنطلقة من أعماق فطرتهم، شيئا من العقل المستبصر، والبصيرة النافذة- لاشتعلت هذه الشرارة في كيانهم، ولأضاءت عقولهم وقلوبهم، ولطردت هذا الظلام الكثيف المخيم عليهم.. ولكن ما أن كادت هذه الشرارة المضيئة تنطلق، حتى نفخ فيها الهوى، والضلال، فماتت في مهدها، وخبت في مكانها! {ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ.. لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}.
لقد صحّ وضع القوم في الحياة، حين أوقفهم إبراهيم على أقدامهم، وأراهم من آلهتهم ما هى عليه من ذلّة وضعف واستسلام، فرأوا وجه الحق مشرقا مضيئا.. ولكن سرعان ما غلب عليهم ضلالهم، فعادوا إلى وضعهم الأول المنكوس، ونكسوا على رءوسهم، فرأوا الأشياء في وضعها المقلوب، كما كانوا يرونها من قبل.. رأوا الحق باطلا، والباطل حقا.. وعادوا إلى إبراهيم يحاجّونه بهذا الضلال: {لَقَدْ عَلِمْتَ.. ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ؟} {قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟
هكذا كان ردّ إبراهيم على القوم، إنه ينكر عليهم هذا الضلال الذي هم فيه، حتى إنهم ليعترفون بألسنتهم على هؤلاء الآلهة بأنهم في عجز ظاهر، وأنهم لا ينطقون.. {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}.
هكذا يقولونها في بلاهة وغباء.. فيجبههم إبراهيم بهذا الردّ المفحم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟}.
أفيصحّ بعاقل لعلم هذا العلم من أمر تلك الأصنام، ويعرّيها من كل قوة، ثم يعود إليها خاضعا ذليلا، يتخاضع بين يديها، ويعفّر وجهه بالسجود تحت أقدامها؟ إن ذلك لا يكون من إنسان فيه مشكة من عقل.. ولهذا أتبع إبراهيم هذا القول بقوله: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ وربما قال إبراهيم هذا فيما بينه وبين نفسه، فبعد أن واجههم بهذا الإنكار: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟} رجع إلى نفسه، فأدار فيها هذا الحديث بينه وبينها..!
وكلمة {أُفٍّ} هنا، معناها: بعدا لكم ولما تعبدون من دون اللّه. فالتأفف من الشيء، يشير إلى التأذى منه، والضيق به.. وهو حكاية للصوت التي يحدثه الإنسان بأنفه وفمه، حين يشمّ ريحا خبيثة.. ثم أتبع ذلك بهذا الاستفهام الإنكارى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ أي أمالكم عقول كسائر الناس، حتى تستسيغوا هذا المنكر، وتسكنوا إليه؟.
{قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ}.
هذا هو موقف العاجز، أمام حجة العقل والمنطق.. إنه لا يملك إلا أن يتحول إلى حيوان، ينطح بقرونه، وينهش بمخالبه وأنيابه! لقد اتهموا إبراهيم، وأدانوه، وأصدروا حكمهم عليه: {حَرِّقُوهُ}! هكذا بكلمة واحدة يقضون قضاءهم فيه.
اهجموا عليه.. حرقوه.
وفى قولهم: {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} تحريض على إمضاء هذا الحكم وإنفاذه، فهو انتصار لا لأشخاصهم، وإنما هو انتصار لآلهتهم.. فمن لم يقف معهم في هذه الجبهة المدافعة عن الآلهة، ومن لم يضرب بيده في وجه هذا المعتدى عليها، فلينتظر غضب الآلهة، وما يحلّ به من بلاء!! وفى قولهم: {إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ} تحريض بعد تحريض، على إنفاذ الحكم الذي حكموا به على إبراهيم.
أي إن كنتم منتصرين لآلهتكم، غير خاذلين لها، فحرقوا إبراهيم، وانصروا آلهتكم. أما إذا خذلتموها.. فهذا أمر آخر!! {قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ}.
وهكذا أمضى القوم حكمهم في إبراهيم، فأوقدوا نارا عظيمة، وألقوه فيها.. ولكنّ رحمة اللّه تداركته، وعنايته أحاطت به، فلم يخلص إليه من النار أذى، بل كانت بردا وسلاما عليه.
وفى قوله تعالى: {عَلى إِبْراهِيمَ}.
بذكر إبراهيم، بدلا من الضمير- في هذا تكريم لإبراهيم، ورفع لقدره، وتمجيد لاسمه! وانظر إلى قدرة اللّه.. النّار المتأججة الجاحمة، يلقى بإبراهيم في لهيبها المتضرّم دون أن يجد لهذه النار أثرا من الحرارة.. بل لقد تحولت إلى برد يحتاج المرء معه إلى نار تدفئه! فكان قوله تعالى: {وَسَلاماً} هو الأمر الذي صدعت له النار فأعطت بردا لطيفا لا تقشعر منه الأبدان.. بل هو أشبه بنسائم العشىّ بعد نهار قائظ.
{وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ}.
أي إنهم أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يقضوا عليه بهذه الميتة الشنعاء.
فنجاه اللّه منهم، وألبسهم ثوب الخسران في الدنيا، إذ لم ينالوا من إبراهيم منالا، وأعدّ اللّه لهم في الآخرة عذابا عظيما.
{وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى بعد أن خلص إبراهيم من النار، خلّصه كذلك من يد هؤلاء الضالين، فاعتزلهم، {وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
وقد نجّى اللّه معه لوطا، لأن لوطا عليه السلام، هو وحده الذي استجاب له، وآمن به، كما يقول سبحانه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [26: العنكبوت].
{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى بعد أن نجّى إبراهيم من قومه، أكرمه اللّه تعالى، وأقام له من نسله قوما، فوهب له إسحق، ثم وهب له لإسحق يعقوب، وبارك نسله وكثّره، فكان أمة.. وفى قوله تعالى: {نافِلَةً} إشارة إلى أن يعقوب لم يولد لإبراهيم، وإنما ولد لابنه إسحق.. فهو ابن ابن له وليس ابنا.. فهو بهذا نافلة، أي زيادة على الولد الموهوب.
وفى قوله تعالى: {وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ} إشارة إلى أن إسحق ويعقوب لم يكونا مجرد ولدين، بل كانا ولدين صالحين، من عباد اللّه الصالحين، كما كان أبوهما إبراهيم، صالحا من الصالحين.
{وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ}.
أي ولم يكونوا صالحين في أنفسهم وحسب، بل كانوا دعاة صلاح، وأئمة هدى، يدعون الناس إلى الخير، ويهدونهم إلى طريق الفلاح.
وفى قوله تعالى: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنا} إشارة إلى أنهم كانوا رسلا، يوحى إليهم من عند اللّه. وبهذا الوحى يبشرون الناس وينذرونهم، ويدعونهم إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر، وعمل الصالحات.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ} أي أن ما أوحاه اللّه إليهم هو فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
وفى قوله تعالى: {وَكانُوا لَنا عابِدِينَ} إشارة إلى أن هؤلاء الرسل لم تلههم دعوة الناس إلى الهدى، عن ذكر، اللّه ولم يصرفهم ذلك عن أن يأخذوا حظهم كاملا من عبادة اللّه، وذكره في كل لمحة وخاطرة.

1 | 2 | 3 | 4